الثقافي والحنيني في مفردات محمد الثبيتي

31 مارس، 2010 | قراءات نقدية | 0 تعليقات

حبيب محموديُشار إلى محمد الثبيتي؛ على أنه شاعرٌ مولود من رحم القصيدة التقليدية، وأن تجربته الشعرية الحديثة ليست إلا تطوراً نوعياً حققه الثبيتي بتوازن واعٍ..!
إن هذه الإشارة المعروفة في الساحة الثقافية المحلية تعتبر محمد الثبيتي، قادماً من الجذور، محملاً بهاجس حقيقي نحو امتداد التجربة الشعرية الحديثة. وبمساندة الموهبة والجدية تمكن محمد الثبيتي من أن يكون محمد الثبيتي، نفسه، دون أن يتورط في نزق يسلبه ملامحه. وهو في مجموعته «تهجيت حلماً .. تهجيت وهماً» يقدم نفسه بدوياً رائعاً يغالب في المدينة شوق الرمال العالقة في عباءاته، وكأنه يريد أن يمد بجذوره إلى قريته الأرملة ـ حسب إيحاءاته ـ أو يعلن عن تزاوج متفرد بين التجربة الوجدانية والتجربة الفنية، لدى شاعر يتطلع إلى أفق جديد له خصوصيته الفذة..!

.منطق المزاوجة

وفي «تهجيت حلماً»، تحديداً، ثمة تزاوج بينه وبين المباشرة منطق رومانسي، على صعيد الشكل والمضمون.. اللغة والصورة.. التعبير والعاطفة.. الموسيقى والتشكيل الجمالي..
يبدو هذا المنطق أكثر إلحاحاً في قصيدة «صفحة من أوراق بدوي» التي تقدم دلالات متقابلة في تعابير ذلك البدوي الرافض أضواء المدينة، متعلقاً ببقايا رمال الصحراء.. الدلالات المتقابلة تجسد صراع البدوي والمدينة، وتفرض جماليات الحياة الشحيحة في الصحراء على الجماليات الأخرى إمعاناً في البداوة:

هذا بعيري على الأبواب منتصبٌ
لم تعش عينيه أضواء المطاراتِ

وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي
تهدهد العشق في مرعى شويهاتي

أتيت أركض والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي

ياأنت لو تسكبين البدر في كبدي
أو تشعلين دماء البحر في ذاتي

فلن تزيلي بقايا الرمل عن كتفي
ولا عبير الخزامى من عباءاتي

هذا الرفض لايحدد المدينة. إنه يلفظ الطبيعة بكل جمالياتها، ليستبقي، فقط، الصحراء وواحاتها العطشى وإبلها وشويهاتها.
والقيمة، هنا، تكمن في التحدي! فالبدوي يرفض كل أشكال الحضارة؛ صارخاً:

أنا حصان عصيٌّ لا يطوعه
بوح العناقيد أو عطر الهنيهات

المضامين رومانسية بدرجة اعتمادها على لغة قريبة إلى الوعي بنفس درجة قربها إلى العاطفة. في حين لا يمكن إغفال الصورة التي شكلها الشاعر مفيداً من رصيد جمالي. وتحديداً في «أتيت والصحراء تتبعني.. أحرف الرمل تجري.. تسكبين البدر في كبدي.. تشعلين دماء البحر..» فضلاً عن صور أخرى معادلة لها في أبيات أخرى من القصيدة لم نوقفها..!
وبتأويل لا نبرئه من المبالغة تماماً؛ ثمة إسقاط شفاف يفضح تمنع القصيدة المتشبثة بشوق الرمال وتحدي الظمأ، ويمنحها التماسك العضوي، حسب قوانين القصيدة التقليدية، في ذات الوقت الذي لا يبدو فيه إلا المضمون الذي قدمته أعرابية قديمة بقولها:

ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف

آلية قصيدة التفعيلة

وإذا كانت هذه القصيدة قد فرضت، بطبيعة عضويتها العمودية، بداوة الشاعر على نحو مفتضح؛ فإن بقية النصوص، التي تحتضنها «تهجيت حلماً.. تهجيت وهماً»، قد فرضت ـ بدورها ـ بدواته، أيضاً، بواسطة آلية لغوية مختلفة تتناسب ووظيفة المفردة اللغوية في قصيدة التفعيلة.
إحصائياً؛ تحشد النصوص المتبقية لغة الصحراء وإيحاءاتها البدوية ضمن تفاعلات الدلالات اللغوية التي يتَقصَّدُها الشاعر إلى الحد الذي لا يمكن فصل هذه اللغة عن تأدية المضامين وتشكيل الصورة الجمالية. ومجرد مطالعة سطور ومقاطع النصوص تكفي لمعرفة مدى غنى هذه النصوص بـ «شميم العرار.. وجياد السفر.. وذاكرة الرمل.. ولهاث الهجير.. والوشم.. ورقصات السيوف.. والربابة». وهذه المفردات استللناها من نص واحد هو «سألقاك يوما».
أما قصيدة «شهرزاد والرحيل إلى أعماق الحلم» ففيها: «صهيل الجياد.. والهيل والزعفران وريح الشمال.. ودماء القبيلة.. والشال البدوي».
وأدائياً؛ تتفاعل هذه المفردات الحنينية ومفردات أخرى ثقافية (مصدرها ثقافته لا حسه البدوي) في تشكيل الصورة الجمالية في النص، وتؤدي، جميعها، وظيفة فنية تشكيلية تفضي إلى صورة جديدة عند الشاعر تختلط ــ أو تمتزج ــ فيها الدلالة البدوية البدائية بدلالة جديدة في وظيفتها الرمزية، ففي النص الأول:

سألقاك يوماً وراء السديم
ضفافاً من الضوء
يختال فيها شميم العرار
ونكهة ماء المطر
سألقاك
يازمناً يتجدد دوماً
ويمتدُّ فوق حدود القمر
وفيه أيضاً:
ربيعية الحب
حين تصير المواسم أشرعة
تلطم الموج
كوني أنت النسيم
وحين تصير الشواطئ ظلاً
لعينيك
كوني الربابة واللحن..
والذكريات
وكوني النديم

وفي النص الثاني:

تحيلين ليل المدينة
أسئلةً
وهموماً
ورتلاً من العاشقين
وأرصفة للرحيل
ونهراً من الفرح المرِّ
فيه انسكاب الدلال
الثمالى
ورائحة «الشاذلية»
والهيل..
والزعفران
وريح الشمال
الوجود الحبري

وإذا كان عناق الثقافي بالحنينيِّ يؤول بالصورة إلى تشكيل لغوي أقرب إلى النسق الرومانسي في المقاطع الفائتة، فإنه، في المقطع التالي (من قصيدة تهجيت حلماً) يتكاثف ويتكاثف حد التوحد الذي ينتهي إلى خلق إيحاء يفلت من آلية الوعي، ويضيف إلى الصورة قيمة جمالية أكثر تمنعاً وتأثيراً وتماسكاً:

يحرق العشق وجهي، أثمل
من نكهة النار،
في رئتي يلتقي زمن الفرح المتجهم
والانتظار
تسللت من حلكات السؤال
العقيم
توضأت في غيمة خرجت من
غدائر ليلى
تسلقت واجهة للمسافات،
حدقت في عين معشوقتي
ــ وهي في شرنقات المواعيد نائمة ــ
فتهجيت حلماً..
تهجيت وهماً
قرأت مدامعها
صفحة.. صفحة
وعقرت لأحلامها الصوت والكلمات

المفردة البدوية الحنينية فقدت وجودها الحبري،هنا، واستحالت إيحاءً يوميء إلى حميمية الإحساس، بدلاً من ارتسامها في المقاطع السابقة. إن الصحراء لم تبارح إيحاءات هذا المقطع الأخاذ، لكنها لم تخلع نقابها كما فعلت في كل المقاطع السابقة.. لم تستعر الصهيل ولا الهجير ولا الرمال. ومع ذلك أشبعت الصورة باللفحات والظمأ والعقم والمسافات وعقَرت الصوت ــ ولكن ــ للأحلام، في صورة موغلة في الحلم البدوي..!
ومع أن القصيدة تتداعى صورها التالية لتعزيز هاجس التساؤل بواسطة مفردات ثقافية، إلا أنها تعود، في النهاية، لاستعادة الصحراء على نحو حبري لغوي:

الحقول
الحقول
نخلة طوقت بجدائلها الماء والشمس
باحت بأسرار قامتها للهواء..
تعرت على الشط.. ألقت ملامحها
في المحيط
الطبول.. الطبول
رقصة تنتشي في حدائي، طريق
المجرة يبدأ من داخلي
فامتزجت مع الرمل..
صرت بذوراً
وصرت جذوراً
وصرت بخوراً
نفذت إلى رئة اليم .. طافت برأسي
الخيول الأصيلة

نشاهد، هنا، مفردات الريف والبحر والصحراء والفضاء وهي تؤدي تكوين الصورة. في الوقت الذي تتراسل دلالاتها الطبيعية ووظائفها كمفردات تعبر عن مضمون خاص، بدلاً من ملء اللوحة بعلاقات جمالية منطقية. بعبارة أخرى: يذوب الحنيني في إيحاءات الثقافي بوصفه جزءاً من ملامح الصورة المواربة وعملاً تشكيلياً يحاول مزج الرؤى الخاصة بالدلالات الطبيعية، لينتهي، أخيراً، إلى تعددية جمالية فنية ذات وظيفة إيحائية لا تفقد وشايتها بهاجس الصحراء، رغم الذوبان الذي مُنيت به في حبرية التركيب اللغوي.

إيقاع المفردة الريفية

في «برقيات حبٍ إلى غائبة» يتضاءل هاجس المفردة البدوية، مع أنه يحتفظ بوجوده الحبري مقابل المفردات الأخرى. إن «الخبب.. والغيث..والصهيل.. والصحارى.. وذاكرة الرمل.. واللحن البدوي.. ووهج الوشم.. والسراب..»، كلها، مفردات بدوية حمَّلها الثبيتي إيقاعات غنائيته في القصيدة.
لكنه ـ بالمقابل ـ سلبها فاعليتها الدلالية والجمالية في آن. وتتكشف هذه الحقيقة، أكثر، في ملاحظتنا لتنامي إيقاع المفردة الريفية، في القصيدة، وتفوقها في تشكيل الصورة الرومانسية استعمالاً وتوظيفاً.. إنه يقول:

أجيء إليك
مع الغيث أهمي
وأبذر بين جراحك إسمي
أشق إليك..
هموم الحصاد
وخوف السنابل
أشق إليك..
طموح الجراد..
عقوق البيادر..
جوع المناجل
أزف إليك
تهاني الفصول
غناء الحقول
وشوق القوافل
أجيء
وفي قصماتي
يعرش كرم
ويثمل نخل
وتغرق
في خطواتي سواحل

في هذا المقطع؛ تنفرد المفردة الريفية بتأدية المضمون الغنائي الذي يقع الثبيتي في إساره. في حين تتراجع المفردة البدوية، إحصائياً وأدائياً، عن دورها اللغوي والإيحائي، في إجراء يوحي باستدعاء الشاعر جزءاً من رصيده اللغوي الثقافي بصورة منوالية.
وفي تصوري الخاص؛ إن الأزمة لا تكمن في تراجع المفردة، بقدر كمونها في التركيب والتوظيف الجمالي. إن النص، أغلبه، يحتفل بغنائية متهالكة تتوسل بالتكرار (لا التوكيد) والنثرية والتقفية والمراهنة على الإيقاع الموسيقي:

أجيء إليك
مللت حياد الظروف
مللت الوقوف
أجيء جراحا
أجيء صباحا
أجيء رياحا
تطوف
تطوف
تطوف

مع أن المقطع الخامس، من النص، يختلف ــ كليا ــ عن المستوى الغنائي الذي يعانيه النص:

أجيء إليك
وللحب واجهة
من مرايا
وللرمل ذاكرة من ضباب

في سياق الجملة الشعرية

ولأننا نعالج وجود المفردة البدوية في شعر الثبيتي تحديداً؛ فلابد من الإشارة إلى أن لـ «المفردة البدوية»، دوراً شعرياً لا يمكن فصله عن تجربة الشاعر الفنية وامتدادها اللغوي بالذات. غير أن وجودها تفاوت بين الحبرية والإيحائية، أي بين الكلمة المكتوبة وبين الصورة النفسية.. بين الوظيفة اللغوية الواعية وبين الوظيفة الفنية المترفعة.
والمفردة الشعرية، عند الثبيتي عموماً، تتفاوت، أيضاً، بين الحنيني والثقافي، أي بين ما يمليه حنينه وبين ما تمليه ثقافته. وبين المفردتين فرق، في الوقت الذي تصبح فيه الحاجة لكلتيهما في التجربة أمراً بديهياً.
وإذا كنا، في الاستعراض السابق، قد عالجنا وجود المفردة وتطورها في الجملة الشعرية من الاستخدام الحبري المباشر إلى مزجها بالمفردة الثقافية حد الذوبان، فإننا سنستعرض ـ هنا ـ تشيُّأَها في سياق الصورة، من خلال نص مهم في «تهجيت حلماً».
النص هو «مساء وعشق وقناديل» الذي لا يحتفل بالمفردة قدر احتفاله بتداعياته الممتدة إلى الضفة المقابلة في الدلالة:

كقامة عملاق
تمتدُّ هذي المفازة لاهثة
شوقها يعبرالحلم..
يفجأ صمت المسافات
والأمد السرمدي
عشقا
يمتطي فرح الأمسيات
وحزن الوطن
ومن حولها يتألق وجه
الفراغ
ورائحة الشمس والطين
تنشق عنها جراح المدينه

دلالة المفردة البدوية تمتدُّ بتداعياتها، هنا، من «المفازة» إلى «المدينة»، والكلمة الأخيرة دلالة مقابلة لـ «صمت المسافات» و «الأمد السرمدي» و «الامتطاء» و «وجه الفراغ». وكلها مفردات إيحائية تتشيأ في السياق اللغوي بواسطة توظيف الفعل المضارع «تمتد.. يعبر.. يفجأ.. يمتطي.. يتألق.. تنشق» في تجسيد الحقيقة الخاصة/ الرؤية.
وتقنياً؛ يحسب للثبيتي في نصه (الذي سبقت كتابته نصوصاً قبله وهذا مكمن غرابة) أنه تجاوز مرحلة التعامل مع الدلالة البدوية باعتبارها «كلمة» إلى مرحلة التعامل معها بوصفها امتداداً رأسياً للجملة الشعرية. وفي الصورة السابقة نبصر بالجملة وهي تقتات من داخلها بجزئياتها للانتهاء إلى خلق حساسية ممتنعة عن المكاشفة.
ولأن المضمون الشعري هو المصدر الأهم، في هذا النص، فإن محمد الثبيتي لم يحتفل بمفردته الحنينية ذات الاحتفال بالصورة الشعرية، فهو افتتح النص قائلاً:

في انتظار المساء الخرافي
ترسو مراكبنا البابلية
خفاقة الأشرعه
وريح محملة بالضجيج
تدير نجوم المجرة حول
ضفاف الخليج
وتعبث بالصوت والماء والأمتعه

ولا شيء، في هذا المقطع، يشير إلى البداوة أو يومئ إلى لغة الصحراء، غير كلمة «ريح» الخديحة في دلالتها البدوية. إن الصورة، هنا، تشكلت بفعلٍ مثقل بسوداوية المضمون الذي لم يكن يحتاج إلا إلى أي صورة قاتمة تفتض بكارة المشهد. بصرف النظر عن أي عبارة ذات خصوصية في مضمونها البيئي.

نهاية

هذا كله يفضي بنا إلى أن محمد الثبيتي (من خلال ديوانه تهجيت حلماً) يراواح بين المفردة الحنينية والمفردة الثقافية في معاقرة جسد لغة القصيدة. فتارة يقدم المفردة البدوية بغبارها ورائحتها الجافة، وتارة يمزجها بالمفردات الثقافية «الريفية» حد ضياعها وتحجيم إيقاعها، وتارة يبثها في في إيحاءات الجملة الشعرية، وتارة يلغيها من ذاكرة اللغة ويعتاض عنها بغيرها.
وعلى الرغم كل هذا التفاوت؛ كان الثبيتي يعي أنه بدوي يستعير لغة شعر، ويعْبُر الكناية والرمز، وحتى الصمت، إلى تأكيد الحقيقة الخاصة/ الرؤية، واثقاً في تمكنه الفني المبدع.

حبيب محمود

المصدر: موقع جسد الثقافة

مقالات مشابهة

قصيدة ما قبل النفطي

قصيدة ما قبل النفطي

 قصيدة ما قبل النفطي الحدث الشعري في “موقف الرمال/موقف الجناس” لمحمد الثبيتي   حاتم الزهراني* يمكن مقاربة المشروع الجمالي للشاعر السعودي محمد الثبيتي (1952—2011) بتحليل نصوص "الذروة الشعرية" في ديوانه؛ وهي نصوص المرحلة التي بدأت بمجموعة "التضاريس"([1]) لتحدث...

المغامرة الإيقاعية وتنوّع الأشكال الشعرية في شعر الثبيتي

المغامرة الإيقاعية وتنوّع الأشكال الشعرية في شعر الثبيتي

يحرص الثّبيتي على تنويع الأشكال الشّعريّة في مدوّنته، ساعيا من وراء ذلك إلى اختبار الممكنات الجماليّة لكلّ شكل شعريّ. ولا عجب، فلكلّ شَكْلٍ شعريّ إرث من الأساليب الفنيّة المستعملة فيه تَسِمُهُ بمَلْمَحٍ خاصّ. ولقد كان الثّبيتي مدركا تمام الإدراك لهذا الأمر، فلم...

عتبات التهجي قراءة أولى في التجربة الشعرية عند الشاعر محمد الثبيتي*

عتبات التهجي قراءة أولى في التجربة الشعرية عند الشاعر محمد الثبيتي*

ساهم تسارع تطور التجربة الشعرية عند محمد الثبيتي في رفع وتيرة الإرباك الذي مس من كانوا يناصرون تلك التجربة بقدر ما مس أولئك الذين كانوا يناصبونها العداء، واقتسم الفريقان الحيرة إزاء هذه اللغة الجديدة التي كانت تشكل لفريق تبشيراً بآفاق جديدة موغلة في الحداثة، كما...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *