كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ ..ولم يسمر بمكة ســامر
.. حسرة أودت بقلب الشاعر العربي،وذهبت به بعيداً .. هي نفس الحسرة التي جعلته يبكي الرموس،ويخاطب الأطلال .. إنه الموقف الشعري الواضح المتكرر في الشعر العربي .. ووضوحه ناجم عن تباينه اللحظوي؛إذ فجأة يجد الشاعر نفسه في زمن برزخي،فاقداً الصلة بما مضى،وما سيأتي .. ليمثل الزمن في لحظة راهنة شديدة التكثف والشحوب .. إنها اللحظة التي تلجئه إلى بكائية عدمية أو عبثية قانطة ..
هذا الموقف المتكرر في الشعر العربي يعاود ظهوره الآن،ليشكل السمة الأكثر وضوحاً في الشعر الحديث في مرحلة التسعينات،أو “الموجة الثانية” من الشعراء الشباب .. على حد اصطلاح الأستاذ فايز أبا في مقاله “القضية” .. وهو اصطلاح شديد الدقة .. فليس هناك جيل أول وجيل ثان بل هما موجتان داخل جيل واحد ..
وإن كانت الموجة الأولى تمثّل المدّ والاندفاع؛فإن الثانية تقابل الجزر والانحسار .. على أن الانحسار هنا ليس انحساراً للفن نفسه،بل للروح التي شيد عليها ذلك الفن .. وهو ما دفع بكثير من الشعراء إلى الكتابة في مجال القصة أو الرواية .. بحثاً عن قالب أكثر مواءمة للموقف الانحساري،وابتلاعاً للحسرة العارمة .. وهو ما دفع أيضاً بكثير من النقاد في العالم العربي إلى إعلان زمن الرواية .. بل ألجأ نقاداً آخرين لم يطرقوا باب السرد أصلا،إلى لهاث نابع من إحساسهم بأن “زولية” الشعر الوثيرة قد سحبت من تحت مقاعدهم ..!
**
“موقف الرمال .. موقف الجناس” للثبيتي نموذج لقصيدة الموقف الشعري المتكرر : بكائية العدم ..وقنوط العبث .. إنها قصيدة الوحدة والتوحد .. في الخندق الذي أفضى إليه الشعر .. في هذه الآونة .
وعلى خلاف ما يرى الأستاذ فايز فالتماهي مع التجربة الصوفية،أو الألعاب اللفظية ـ على حد تعبيره ـ المبالغ في استثمارها،والتي يرى أنه لا دخل لها في بناء القصيدة، كلها أمور ساعدت على خلق جو من التوحد داخل القصيدة،ولتعبر عن الرتابة والملل والتكرار بلغة شديدة الإيحاء ..
هنا يأتي الشاعر ليوظّف الجناس في القصيدة توظيفاً مغايراً لوظيفة الجناس المعهودة .. فبدءاً من العنوان الذي يطابق فيه الشاعر بين الرمال والجناس مطابقة تامة بتكرار كلمة “موقف” في المبتدأ والخبر : ذرات الرمال تمثّل جناساً تاماً فيما بينها،وهي في توحدها تعيد تشكيل ذاتها في صورة واحدة متكررة تماماً كلعبة الجناس بين الحروف حين تعيد ترتيب نفسها بأشكال متعددة،لكنها بمعنى واحد متعدد اللفظ،فالتماثل لا المغايرة هو الذي يحكم لغة النص .
التقاطع مع المنحى الصوفي الذي جاء كبوابة عبور في مفتتح القصيدة يوضح كثافة اللحظة الشعورية،باستخدامها لغة شديد ة الخصوصية :ـ
ضمّني،
ثمّ أوقفني في الرمالْ
ودعاني
بميمٍ وحاءٍ وميمٍ ودالْ
التقطيع الحرفي يجرّد الاسم من دلالاته،فتبقى مجرد أصوات متناثرة كحبات الرمال المتشابهة . الجناس في الكلمات “النواقيس والنواميس”،”الشعراء والفقراء”، “النياشين والبساتين”..الخ مبني على التماثل والمطابقة،فحينما يقول :”أنت والنخل فرعان” يتضح التطابق بين الفرعين في قوله بعد ذلك “أنت والنخل صنوان” . و حين يقول “أنت والنخل طفلان ” يذوب النص في غنائية طفولية مكونة من أربعة مقاطع صغيرة متساوية من مشطور الرجز المكون من تفعيلة “مستفعلن” يبدأ كل منها بكلمة مكررة في بداية كل مقطع “أصادق”،ثم يعود إلى التفعيلة التي بدأ بها النص “فاعلن” بتكرار الجملة “أنت والنخل طفلان ” ليختم بقوله “أنت والنخل سيّان”.
نلاحظ في المقاطع السابقة خلو الكلمات مما عرف لدى البلاغيين بالجناس التام : أن تتطابق حروف مفردتين تطابقاً كاملاً فتصبح مفردة واحدة ذات دلالتين مختلفتين .
والثبيتي في هذه القصيدة يستعير البناء السيمفوني الذي يعتمد تعدد الأصوات وتداخلها،وهو بناء سبق أن استعاره في قصيدة “الأوقات” . التصاعد الدرامي في النص يبلغ ذروته في الحركة الثالثة،بعد التمهيد والترسيخ للمطابقة التامة في النص،ليعلن احتجاجه في صرخة عظيمة تهدم كل ما بناه دفعة واحدة ،بل تذهب أبعد من ذلك :”ـ سيدي لم يعد سيدي .. ويدي لم تعد بيدي ..” يستمر التصاعد الدرامي في حوار يمثل لؤلؤة النص :
قال:
أنت بعيد كماء السماء
قلت:
إني قريب كقطر الندى
المدى والمدائنُ
قفرٌ وفقرُ
والجنى والجنائنِ
صِبرٌ وصبرُ
وعروس السفائنِ
ليلٌ وبحرُ
ومداد الخزائنِ
شطرٌ وسطرُ
قال:
يا أيها النخلُ
يغتابك الشجر الهزيلْ
ويذمّك الوتد الذليلْ
نلاحظ دخول الشاعر إلى إيقاع آخر في القصيدة،تفعيلة “متفاعلن”،وهو انتقال غاية في السلاسة؛فكلمة الشجر في الجملة الأخيرة بمثابة الجسر الواصل بين إيقاعين لتستمر التفعيلة”متفاعلن” حتّى نهاية القصيدة . كما لعلنا لاحظنا بداية جنوح المفردات نحو الجناس التام في المقطع السابق :”المدى والمدائن” و “الجنى والجنائن” لكنه يظل ناقصاً حتى في كلمتي”صِبْر وصَبْر” لاختلاف حركتيهما . ومع اقتراب المفردات إلى التطابق اللفظي تتم المفارقة والاختلاف بين الكلمات فنشعر بتسلل الحياة وازدهار الروح المتنامية داخل النص: يا أيها النخلُ .. هل ترثي زمانكَ،أم مكانكَ .. أم فؤاداً بعد ماء الرقيتين عصاكْ .. حين استبد بك الهوى .. فشققت بين (القريتين) عصاكْ” .
يأتي الجناس في صورته التامة بتكرار كلمة “عصاكْ” بدلالتين مغايرتين .لكن الملفت هنا مجيئها ساكنة مما جعلها قريبة جدّاً من تفعيلة المقاطع الأولى “فاعلن” الأمر الذي قاد النص إلى “مونولوج” داخلي فيه استعادة سريعة لما سبق وبأسلوب مماثل لكن على التفعيلة الأخيرة “متفاعلن” : “وكتبتَ نافرة الحروف ببطن مكّةَ .. والأهلة حول وجهك مستهلةُ .. والقصائد في يديك مصائدُ..”.
كأن الشاعر بصدد محاكمة نفسه إذ يستخدم أسلوب الالتفات وهو يتحدّث عن نفسه بلجوئه إلى ضمير المخاطب في الفعل الماضي”كتبتَ”،ويصف تلك الكتابة بنافرة الحروف…!! .يصل التوحد لدى الشاعر أقصاه وينادي فلا مجيب:”يا طاعناً في النأي”،ويدرك أنه لن يستجيب،فيخاطبه في شفافية تسمو على الآلام:”اسلم إذا عثرت خُطاكْ ..واسلم إذا عثرت عيون الكاتبين على خَطاكْ .. وما خَطاكْ !؟ .
يقلب عينيه في أرجاء المكان بحثاً عن الغائب الحاضر،بل كثيراً ما يمثل أمامه يخاطبه ويعاتبه ويناجيه،وقد استمعنا إليه وهو يناديه “يا طاعناً في النأي”،ليعلن في النهاية :”إني أحدق في المدينة كي أراك فلا أراك .. إلا شميماً من أراك” معلقاً أهمية كبرى على المكان:المدينة، بتقديمه المكان على الفعل”أراك” وعدم تحقق الرؤية البصرية بأقصى ما يستطيع من حدود الإبصار:التحديق ..وبرغم أنه يعلن عن خيبة مسعاه “فلا أراك” لكنه يفاجئنا بقوله:”إلا شميماً من أراك”..!
تبادل الحواس بين حاستيّ البصر والشمّ،تؤكدّ وجوده القريب،فحاسة الشمّ أكثر يقينية وبدائية من حاسة البصر التي تعتبر أرقى لكنها أكثر الحواس قابلية للخداع والإيهام .(الأراك المختومة به القصيدة شجرٌ بريٌّ متجذر في الثقافة العربية والشعر على وجه الخصوص) .
**
رغم أن القصيدة قد كتبت في المرحلة،التي وصل فيه الحديث عن أزمة الشعر حد التخمة،ورأينا كيف فزع كثير من الشعراء إلى أنماط كتابية أخرى،وهرع نقاد آخرون إلى أنساق ليست كتابية بالمرة معللين لذلك بموت النقد الأدبي تارة،وبالتشبع(!!) تارة أخرى،هذه المفردة التي يرون لها سحراً خاصاً لكثرة تداولها على ألسنة الكيميائيين،غير مدركين أن بائع “اللنقطة” أكثر معرفة بالمفردة على مستوى الممارسة حين يتشبع الماء بالسكر في قدر “الشيرة” !!.
من جانب آخر فما يزال الشعر يتصدر الملاحق الأدبية في الصحف والمجلات بكافة أشكاله : العمودي والتفعيلي والمنثور .. وبمختلف مستوياته :الفصيح والعامي ..ولو (أننا سوف نخدش بذكر العامي هنا أحاسيس مرهفة لطائفة كارهي “اللنقطة”) .. كذلك المطابع في حركة إصدارها المتتابع للدواوين والمجموعات الشعرية،بصرف النظر عن الأمسيات .. والمهرجانات .. والجوائز ..ليس هذا فحسب بل إننا نلاحظ تسلل الشعر إلى قوالب سردية كالقصة والرواية ..!. إذن كيف يمكننا أن نزعم أن الشعر في أزمة ؟ ..
لا نستطيع بهذا المقياس أن نحكم على الأمر . إن المسألة تبدو لنا وكأنها مغلوطة،أو مبالغة على أحسن الاحتمالات،لكنها لا تخلو من حقيقة؛إذ أن مرحلة التسعينات شهدت عصر التحولات الكبرى،على مستوى المفاهيم والقيم،عصر اندلاع المعلومات وتشابك الفضائيات وشبكات المعلومات السريعة . الأزمة التي يعيشها الشعر هذه الأيام هي أزمة الحضارة العربية بمستوى عام،أزمة غياب المفهوم،في ظل ميوعة المصطلح النقدي،وتراجع الفكر العربي ..
الشاعر في هذه المرحلة يجد نفسه على أرض كثيرة المزالق،لا يستطيع الثبات ثانية واحدة .. أو ربما جرفته أنهار كثيرة ..وربما..وربما ..
غابت القصيدة التي تؤسس لواقع مغاير تستمده من الواقع نفسه . غابت القصيدة التي تضيف لهذا الواقع بعد أخذها عنه،القصيدة التي تسبق حداثة تفكيرها حداثة لغتها ..الخ . العجز عن كتابة مثل هذه القصيدة هو الذي أدى إلى احتجاب أسماء كبيرة على امتداد خارطة العالم العربي .
من هنا جاء لقصيدة الثبيتي حضورها،في إطار حركة الشعر العربي التي مازالت فاعلة من خلال نتاج بعض رموزها،في اشتجارها مع الواقع وطرحها للأسئلة الكبيرة ..
——————————————
• نشرت في ملحق روافد – جريدة البلاد بتاريخ 4 يونيو 1998
0 تعليق