الشاعر محمد الثبيتي ..حلم الرغبة في كتابة مالم يكتب

25 أبريل، 2010 | مقالات | 0 تعليقات

د. عبد العزيز المقالحمنذ أسابيع، وفي لقاء أكاديمي حميم، حدثني ناقد عربي أعتز به كثيراً عن المشهد الشعري في الجزيرة العربية والخليج، وقال: إن هذا المشهد يمر – منذ وقت ليس بالقصير- بفترة نهوض حقيقي لم تكن في حسبان النقاد، وحسابات الشعراء، وأن الشعر في هذه الأطراف جاء مفاجأة مدهشة، وغير متوقعة لشعراء (المركز)،

الذين ظلوا يرون في أقطارهم على الدوام مركزاً للتحديث الأدبي، والاجتماعي، والسياسي. وإذا كانت هذه المفاجأة المدهشة قد جاءت متأخرة بعض الوقت؛ فإن حضورها قد أدى إلى سلسلة من الاستنتاجات، منها أن المبدع في هذا الجزء من الأرض العربية التي عاشت زمناً بارداً لا شعر فيه، ولا فنون، ولا موسيقى، يعيش اليوم، وبعد انقطاع واقصاء تجارب إنسانية ساخنة، وقادرة على تشكيل رؤية إبداعية ذات نكهة مختلفة، فضلاً عن شغف المبدع في هذه الأطراف بالتجدد والتجديد، ومحاولة اكتشاف مناخات وآفاق لم يقترب منها عالم الشعر بعد. الإشكالية الملفتة أن المشهد الشعري في هذه الأطراف ولأسباب عدة لم يصل بعد بصفائه، وإضافاته إلى كل  -أو حتى إلى بعض- الأقطار العربية.

تذكرت ذلك الحديث حين تسلمت – منذ أيام نماذج شعرية من الديوان الجديد للشاعر محمد الثبيتي- الذي تكفلت مجلة “جهات” بإصداره في عدد خاص؛ احتفاء بهذا الشاعر المبدع، وحضوره العميق في الحياة الأدبية منذ صدور ديوانه الثالث “تضاريس”، الذي وضعه في مقدمة أهم الأصوات الشعرية في الجزيرة العربية والخليج. وفي قراءة عاجلة للنصوص الأربعة التي أرادت مجلة “جهات” أن تكون موضع النظر والتعليق كنماذج لبقية نصوص الديوان، تأكد لي أن هذا الشاعر يواصل مسيرة تقدمه نحو الجديد بخطى واسعة، فالمبدع الموهوب الذي خرج من قلب العمود الدافئ الجميل؛ حاملاً ما تبقى في ذاكرته من إيقاع وقافية ورغبة في التحول والتغيير ،لم يخطىء طريقه نحو الجديد الحقيقي محافظاً على مشاعر الرقة والعذوبة، وفي الوقت ذاته؛ فإنه يبدو في نصوصه المطولة كما في نصوصه القصيرة حريصاً على التركيز في استخدام اللغة، وفي بناء الصورة، وفي تكثيف الدلالة دون الإخلال بالمعنى. وسأبدأ بقراءة أقصر النصوص الأربعة مساحة، وهو بعنوان “تعارف”، ولا أدري إن كان التشكيل السطري أو البنائي المثبت في الأوراق المرسلة إليَّ عبر الفاكس هو التشكيل نفسه المتبع في الديوان، أم يخالفه:
” غرفةٌ باردة / غرفةٌ بابها ؟ / لا أظن لها أي باب / وأرجاؤها حاقدة/ غبشٌ / يتهادى على قدمين، وصمتٌ / يقوم على قدم واحدة / لا نوافذَ / لا موقدٌ / لا سريرٌ/ ولا لوحةٌ في الجدار/ ولا مائدةْ / حين أججت نار الحقيقية حولي / وهمهمت بالقول لا فائدةْ / كان يثوي بقربي/ حزيناً / ويطوي على ألمٍ ساعده / قلت من؟ / قال: حاتم طي، وأنت؟ / قلت معن بن زائدة “. كأني بالشاعر هنا، وهو يخط تأملاته العميقة قد أمسك بريشة اللغة ليرسم صورة المكان الذي سيتم فيه التعارف، ولكي لا يجعلنا نتابع الصورة ونخترق كل خطوطها ومساراتها نراه وهو يلقي بكل حمولات السأم الذي يعاني منه على هذه الغرفة البادرة المعزولة والتي لابد أن تكون في قلب الصحراء حيث سيلتقي خلف جدرانها عربيان كريمان أولهما جاهلي، والآخر عباسي لكي يتعارفا في هذا المناخ البارد الصامت الخالي والمفرغ من كل وسائل الحياة العادية، وهنا مصدر الدهشة، وامتلاء النص بما يجعله شعراً، وشعراً بالغ التأثير والجاذبية. وحدات النص مرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً عضوياً، واللغة على قدر المعنى، لا مكان لكلمة واحدة زائدة أو محشورة، أما الإيقاع فهادىء حيث أفلح الشاعر في أن يقود موسيقاه، ولم يتركها تقوده. كما جاءت الأسئلة الضمنية والمعلنة، وكسر حدة القافية في منتصف النص ” لانوافذ / لاموقدٌ / لا سرير / ولا لوحة في الجدار/ ” جاءت كلها للتخفيف من نبرة الإيقاع العالي وتصعيده.
النص الثاني من هذه النصوص الأربعة، هو أطولها وأجملها وأحفلها بالشعر، وهو من حيث البناء والإيقاع، لا يقوم على مثال سابق لكنه من حيث اللازمة الفكرية يتحرك في إطار “مواقف” شيخ الشعر، والأوراد الصوفية العارف بالله محمد بن عبد الجبار النفري، هو لايقلده ولا ينسج على منواله، لكنه يبعث في لازمته “أوقفني.. وقال لي” طاقة باذخة، ومبتكرة من النخيل العذب والمدهش، عنوان هذا النص المطول ” موقف الرمال.. موقف الجناس”، وقد تنقل فيه الشاعر عبر عدد من الأوزان ليصهرها في
إيقاع واحد:
” ضمني، ثم أوقفني في الرمال / ودعاني: / بميمٍ وحاءٍ وميمٍ ودال، واستوى ساطعاً في يقيني “.
وقال: / أنت والنخل فرعان /أنت افترعت بنات النوى / ورفعت النواقيس / هن اعترفن بسر النوى.
وعرفن النواميس/ فاكهة الفقراء / وفاكهة الشعراء / تساقيتما بالخليطين: خمراً بريئاً وسحراً حلال / أنت والنخل صنوان / هذا الذي تدعيه النياشين / ذاك الذي تشتهيه البساتين/ هذا الذي دخلت إلى أفلاكه العذراء / ذاك الذي / خلدت إلى أكفاله العذراء “.
هكذا هي حالة الكتابة الإبداعية أشبه بحالة الحلم، إن لم تكن هي حالة الحلم ذاتها، ومن لم يعش تلك الحالة من مريدي الشعر، أو يقترب منها فلا يصح أن يجهد نفسه بحثاً عن طريقٍ توصله إلى هذا الفن البديع. محمد الثبيتي، عرف الطريق واهتدى إلى مسالكها، بما في ذلك مسالك العارفين بالله، وبالشعر دون أن يقع في شطحاتهم، أو يرد موارد التصادم والارتباك:
” أمضي إلى المعنى / وامتص الرحيق من الحريق / فارتوي / وأعَلَّ / من/ ماء الملام
وأمر مابين المسالك والمهالك / حيث لايمٌ يلم شتات أشرعتي / ولا أفقٌ يضم نثار أجنحتي
ولا شجرٌ / يلوذ / به حمامي / أمضي إلى المعنى / وبين أصابعي تتعانق الطرقات / والأوقات، ينفضّ السراب عن / السراب / ويرتمي / ظلى / أمامي / افتض أبكار النجوم / واستزيد من الهموم “.
يشير بعض المريدين إلى أن الحجاب مكشوف عن المتصوف، لذلك فهو عندما يكتب الشعر يأتي إليه المستور، والمخفي، والغامض من الألفاظ والمعاني دون جهد. وهذا من المبالغات التي لا أساس لها، ولا دليل عليها. فالشاعر المتصوف، ومن سلك طريقه من الشعراء الحقيقيين يطيلون التأمل، ويبذلون من الجهد ما يجعلهم يتفوقون، ويعطي لأعمالهم الإبداعية هذا القدر من المتعة والأدهاش، ولم يأت ما يكتبونه من نصوص بديعة الظلال والألوان كهذا النص البديع لمحمد الثبيتي نتيجة حالة عفوية وفطرية، وإنما نتيجة جهد كبير واستدعاء لمخزون هائل من المفردات والمعاني الكامنة بإيقاعاتها وظلالها في مكان ما من اللاوعي، والمنتظرة لمحفزات الخلق، وإشارات التكوين.
في النص الثالث من هذه النصوص الأربعة ثورة محب مشفق على “الأعراب” أهلنا، هؤلاء الذين وضعتهم أخطاؤهم وجهاً لوجه مع ذئاب العالم وثعالبه، ففقد بعضهم الرشد، وضاعوا في تلك المتاهة التي تحدث عنها أحد الروائيين العرب بقوله: ” متاهة الأعراب في ناطحات السحاب”، ولا أتردد عن ضم “ليتي” إلى “ليت” الشاعر على أمل أن يدرك نداؤه العطوف قدراً من الاستجابة الآنية العاجلة من أعراب اليوم:

(( ليتهم حينما أسرجوا خيلهم
وتنادوا إلى ساحتي
أوقدوا نارهم تحت نافذتي
واستراحوا .
ليتهم حينما أدلجوا في غياهب ظني بلوا حناجرهم
بنشيد السرى
واستبانوا صباحي
إذ يستبان الصباحُ
ليتهم نظروني ملياً لأ رقيهم بالحروف التي لا ترى
والحروف التي تتناسل تحت الثرى
والحروف التي لا تباح
ولا تستباح
ليتهم سألوني كيف مخرت لهم جانب الليل
حتى تدلت عناقيده
واستوى تحت عرش غدائره
قمرٌ ناصعٌ
وغرام مباحُ )) .

عذب هو الإيقاع في هذا النص ولذيذ، وأعذب منه هذه الجسارة اللغوية، والثقة المبالغ فيها بشخصية العربي مهما قسى عليها الزمان، وما يصحبها من شعور صادق بمسؤولية المبدع تجاه الواقع الراهن.
أما النص الرابع والأخير، وعنوانه “تحية لسيد البيد” فيتضمن وفقاً لقراءتي وتأويلي الخاص، رؤية مستقبلية متفائلة عبر الحديث عن صورة شعرية للإنسان العربي القادم، هذا الذي يقاوم أعداءه، ووجعه ببساله، رافضاً أن يستسلم أو يموت، أو أن يتخلى عن حبه الكبير، أو يتخلى الحب الكبير عنه:

ستموت النسور التي وشمت دَمك الطفل يوماً
وأنت الذي في عروق الثرى نخلة لا تموت
مرحباً سيد البيد ..
إنا نصبناك فوق الجراح العظيمة
حتى تكون سمانا وصحراءنا
وهوانا الذي يستبد فلا تحتويه النعوت

ستموت النسور التي وشمت دمك الطفل يوماً
وأنت الذي في حلوق المصابيح أغنية لا تموت .

أخيراً، أزعم أنني أعرف الشاعر محمد الثبيتي، أو بالأصح أقرأه منذ عشرين عاماً ويزيد، متابعاً انطلاقته وصعوده . وربما كانت هذه المعرفة المقرونة بالقراءة المتصلة بتجربته في نظر الأصدقاء في مجلة “جهات” سبباً كافياً يؤهلني عندهم لأضع هذه الإشارات – على إيجازها- بين يدي ديوانه الرابع، مؤكداً بذلك أن الديوان ميلاد دورة شعرية عربية جديدة، تبدأ هذه المرة من الجزيرة، وليس من بغداد أو القاهرة.

د. عبد العزيز المقالح
كلية الآداب – جامعة صنعاء ،  في  16/3/2005م

المصدر: موقع الدكتور عبد العزيز المقالح

مقالات مشابهة

حاتمية الطائف أبقت منسأة الثبيتي صامدة !

حاتمية الطائف أبقت منسأة الثبيتي صامدة !

للعام الثالث تنسج طائف الورد فنارات التبديع وشارات الفردانية بترسيخ خرائط تضاريس هذا الهرم الثبيتي المعقود في ناصيته خامة الاستثناء على رمال ذاكرة شاعر معجون بقصيدة التفعيلة, بل هو من جدل ظفائر أقنومتها وامتخر عباب أثباجها في الثمانينات في القرن الماضي, حتى تعرش...

«سيد البيد» هتف عالياًلـ «وضاح»: شق بنعليك ماء البرك

«سيد البيد» هتف عالياًلـ «وضاح»: شق بنعليك ماء البرك

يتهجّى الحلم كطفلٍ يفتح عينيه على عالم عريض، فتح (سيد البيد) محمد الثبيتي حواسه اليقظة ليبصر من حوله صحراء عريضة وأشجارا منوعة ومياه الحياة تحيط بالرمال.. أطل وجهه ذات صباحٍ في بلاد بني سعد (جنوبي مدينة الطائف)، حيث تبرعمت ونمت أسماله الصغيرة وراحت تحدق في الأشياء...

عندما يحكي الثبيتي ولعنة التفرد

عندما يحكي الثبيتي ولعنة التفرد

يقول الصينيون عن الشخص الذي يتوفى في خضم أحداث عظيمة فلا يلفت موته أحدا بأنه "مات يوم القيامة"، ويفسرون بهذا مرور ميتته الصامتة مرور الكرام. ولكن ذلك لم يحدث على هذا النحو لمحمد الثبيتي، الشاعر الذي ولد وعاش وهو مقيم تحت سقف العاصفة. "عندما يحكي الثبيتي" كتاب صادر...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *