عرّاف الرمل..

10 يونيو، 2010 | قراءات نقدية | 0 تعليقات

الشاعر السعودي محمد الثبيتي يصدر «بوابة الريح» مكتحلاً ببهاء التضاريس

ديوان محمد الثبيتيفي بداية الثمانينيات ومع موجة ما عرف بالحداثة في تجربة الشعر السعودي, لاح في الأفق، وبدا محلقاً وبلغة مختلفة في تكوينها وفي فلسفتها. واختار – في زمن مفاهيم ثابتة للقصيدة وضمن مناخات تعول على الدرس الشعري – طريقته في أن يكتب الشعر ويخرج به من الحاسة الجمعية آنذاك, فانطلق ليكتب موجوداته وأشيائه القريبة متخففاً من مفاهيم الشعر تلك, ومنتهجاً طريقاً شعرياً خاصاً، وحالة من كتابة الشعر صارت سمة تدل عليه فيما بعد.

محمد الثبيتي (1952) الذي يرقد منذ عام تقريباً طريح الفراش إثر أزمة قلبية تعرض لها, أسهم في تكوين ذائقة شعرية جديدة. صحيح أن الثبيتي كان يكتب طوال مشواره نصاً بأدوات تقليدية للشعر وضمن قصيدة التفعيلة أو الشعر العمودي كما في بعض قصائده, لكن الملفت أنه كان يضعنا أمام نص مختلف في رؤيته وفي حداثته حيث علاقته مع اللغة هي العلاقة الجديدة التي ترسم خيطاً شفافاً ينحاز للإبداع فقط، وينأى به عن أن يكون ضمن طابور الشعر الطويل في صفوف القول الشعري, وهذا يمكن أن نتبينه أكثر في تجربته “موقف الرمال” و “التضاريس” وقصائده الأخيرة التي لم تطبع مستقلة سوى في المجموعة الكاملة التي صدرت حديثاً بعنوان “بوابة الريح”، واشتملت على مجموعاته الشعرية كاملة بالإضافة إلى قصائده الجديدة.

وعي مفارق

تجربة الثبيتي تلك كانت مختلفة في تشكل وعيها بالأسطورة والمكان ومعجم الصحراء؛ فهو شاعر مثقف يكتب بلغة حديثة ومنطلقاً من عوالم ثقافته حتى الشعبية منها, والأسطورية المحلية أو التي يبتكرها في ثنايا فلسفته الشعرية: “جئتُ عرافاً لهذا الرمل / استقصي احتمالات السواد / جئت ُ أبتاع أساطير ووقتاً ورماد / بين عيني وبين السبت طقس ومدينة”.
بقي الثبيتي مؤثراًً في جيله وفي أجيال تاليه من الشعراء الذين لم تختف بصمة الثبيتي من قصائدهم, وبعد زمن من ظهور قصائده هوجم الثبيتي وحورب على صعيد الاعتراضات على مفرداته من جهة واعتبارها خروجاً عن السائد الشعري والنمطية الشعرية من جهة أخرى, واستمر الثبيتي في ترسيخ حساسيته الجديدة للشعر وبلغة جزلة وقادرة على الدهشة, دهشة الفن ودهشة الحياة المليئة بالحزن والإنسانية واجتراح مناطق الشعر الجديدة في تجربته, فنقرأه في قصائد باتت شهيرة ويتناقلها عشاق شعره: “ تعارف “ و “ قرين “ و “ وضاح “ الأوقات “ و “الطير”… كما في تلك القصائد المدهشة في ديوان “التضاريس”, وسنلحظ استخدام الثبيتي لعناوين دواوينه بشكل حديث منذ وقت مبكر في زمن الحداثة الشعرية السعودية بالأخص, حيث لم يكن ذائعاً ولامستخدماً تلك العناوين المنزاحة لغوياً أو التي تصف حالة شعورية ما كما لدى الثبيتي. فعناوين مثل “موقف الرمال” و “تهجيت حلماً .. تهجيت وهماً” وغيرها تشير إلى الحساسية الواعية والمبكرة والحالة الإبداعية التي عاشها الثبيتي. وحتى بعد أن توقف الثبيتي لمدة من الزمن، على الأقل عن الظهور الإعلامي, كانت قصائده لا تزال تبحث في حداثتها وجديدها وتنقب في ظمئه للغة واتساعاته في علاقته مع الأشياء دون مكنون سابق يستند عليه.

صعلوك الشعر

يبتكر الثبيتي شكله وطريقته ونصه في كل مرة, ويجترح مخبوءاً شعورياً في كل قصيدة, يمسك بسماوات قديمة وينثرها في طريق ناصع حيث تمطر المعنى الذي يكترث له الثبيتي مع جماليته أيضاً وغنائيته: “ يا أشعثاً عقر الطريق وشل بادرة الخصوبة / بعدما وهنت قوادمه وأضحى وردة غبا وعقته الطريدة “, تلك الموسيقى في نصه التي تجيء ليس لأنها شرطاً شعرياً فهو منذ أولى نصوصه خارج الدرس الشعري المؤطر, بل لأنها تقدم ذلك الشرط بوعيها الشعري الجديد وتتماس معه لتعيد صياغته وإيقاعاته من جديد. وتحت عنوان القصيدة يكتب “ كيف تأتي القصيدة / مابين ليل كئيب ويوم عبوس؟/ وماذا تقول القصيدة بعد غروب المنى/ واغتراب الشموس” .. وهو صعلوك الشعر الذي يقول “من يقاسمني الجوع والشعر والصعلكة/ من يقاسمني التهلكة؟” ليترك الشعر جنباً إلى جنب مع الحياة.
ولتمرسه في كتابة الشعر، حتى في طرقه التقليدية، سنلحظ أن الثبيتي لا يخضع دوماً إلى البحث عن قوافٍ بجهد وبعيدة عن المعنى الذي يريد, فمخزونه اللغوي ومعجمه الوفير والثر أسهما في أن يخضع اللفظ الشعري في مفهوم القصيدة العمودية والتفعيلة إلى المعنى الذي يريد .. ويعود في كل مرة ليرسم مفاهيمه عن الشعر وعن القصيدة متخذاً منها عيناً على كل العالم والرؤى: “تفوحين من حمى شبابي قصيدة / أشاطرها لوني وشكل أناملي “. وفي نفس القصيدة “قلادة” يقول: “لغة استهل بها وطني أستهل بها قلب معشوقتي “.
بقي الثبيتي عاشق الشعر وعراب اللغة الجميلة وحامل الصحراء في عيون قصائده .. ليصبح للسراب لوحة ترسمها سواحله, وللرمال موقفها “بين المسالك والمهالك” ومكتحلاً ببهاء التضاريس في أبجديته و “نافذة تطل على السماء”.

محمد خضر

————————-

المصدر: صحيفة الاتحاد

مقالات مشابهة

قصيدة ما قبل النفطي

قصيدة ما قبل النفطي

 قصيدة ما قبل النفطي الحدث الشعري في “موقف الرمال/موقف الجناس” لمحمد الثبيتي   حاتم الزهراني* يمكن مقاربة المشروع الجمالي للشاعر السعودي محمد الثبيتي (1952—2011) بتحليل نصوص "الذروة الشعرية" في ديوانه؛ وهي نصوص المرحلة التي بدأت بمجموعة "التضاريس"([1]) لتحدث...

المغامرة الإيقاعية وتنوّع الأشكال الشعرية في شعر الثبيتي

المغامرة الإيقاعية وتنوّع الأشكال الشعرية في شعر الثبيتي

يحرص الثّبيتي على تنويع الأشكال الشّعريّة في مدوّنته، ساعيا من وراء ذلك إلى اختبار الممكنات الجماليّة لكلّ شكل شعريّ. ولا عجب، فلكلّ شَكْلٍ شعريّ إرث من الأساليب الفنيّة المستعملة فيه تَسِمُهُ بمَلْمَحٍ خاصّ. ولقد كان الثّبيتي مدركا تمام الإدراك لهذا الأمر، فلم...

عتبات التهجي قراءة أولى في التجربة الشعرية عند الشاعر محمد الثبيتي*

عتبات التهجي قراءة أولى في التجربة الشعرية عند الشاعر محمد الثبيتي*

ساهم تسارع تطور التجربة الشعرية عند محمد الثبيتي في رفع وتيرة الإرباك الذي مس من كانوا يناصرون تلك التجربة بقدر ما مس أولئك الذين كانوا يناصبونها العداء، واقتسم الفريقان الحيرة إزاء هذه اللغة الجديدة التي كانت تشكل لفريق تبشيراً بآفاق جديدة موغلة في الحداثة، كما...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *