حملت إلينا سلسلة (جهات) وهي كتاب ثقافي غير دوري، ديوانين لشاعر من أهم شعراء العربية في الوقت الحالي، وهو الشاعر محمد الثبيتي، والديوانان: ديوان التضاريس 1986، وديوان (موقف الرمال) 2005، وسوف تتعدد المداخل التي يمكن أن تدخل منها إلى شعر الشاعر، من هذه المداخل ما يتصل بلغة الشاعر المملوءة بشيئين مهمين هما الغنائية المحدودة بقانون بنائي خاص، والبساطة التي تحمل في نسيجها مدى دلاليا مهماً، وهي بساطة شعرية قد تكون خادعة للبعض، فيتخيل أنها كتابة سهلة والوصول إليها ممكن، ولكنها عند الممارسة النقدية الواعية تصبح بساطة مقصودة ومهمة، وتستند إلى وعي خاص بالشعرية التي تطمح إلى التغيير بهدوء ومن دون جلبة مفتعلة في أغلب الأحيان.
ومن المداخل التي قد تكون فاعلة في دراسة شعر الشاعر، التوقف عند عدد من الرموز، التي تتشكل على مدار دواوينه المتتابعة، مثل تجليات رمز (الرمال)، ورمز (النخل) وهما رمزان لهما حضور فاعل، وتتغير دلالتهما بين النمو والتلاشي، ولكن الوقوف عندهما يجب أن يأتي مرتبطاً بمراجعة أعمال الشاعر كلها.
والمدخل المهم الذي اختاره الباحث يرتبط برصد منحى فكري في هذين الديوانين، وهذا المنحى الفكري يتعلق بتناول مساحات التوحد والتنافر، بين الإنسان والشاعر من خلال النص الشعري، والإنسان المشدود إلى تواصل اجتماعي خاص، والشاعر – وأرجو ألا يمثل هذا التحديد مصادرة – الذي يمثل الحرية ولا يقيم وزناً لهذا السياق الاجتماعي والتقاليد الخاصة، فيعرض الحقيقة الصادمة، ويأتي بأفعال قد لا يتقبلها العرف الاجتماعي.
وهذا التوجه الفكري، الذي يعنى برصد مساحات التوحد والتنافر بين الإنسان الملموس مادياً، والشاعر ذلك الكائن الذي لا يرى، له حضور خاص في تراثنا الشعري، ولكن هذا الحضور ظل دائراً في فلك خاص، يشير إلى أن لكل شاعر شيطاناً يلهمه الشعر.
والثبيتي يعتمد في هذا المنحى على مصدرين مهمين، هما رواية (القرين) لدوستوفسكى، وديوان (الأخضر بن يوسف ومشاغله) لسعدي يوسف ويمكن للباحثين الذين يهتمون بدراسة التناص، وطبيعة الطبقات المعرفية، أن يتوقفوا عند دراسة هذا التوجه في شعر الشاعر.
ويمكن أن نلمح هذا التوجه الفكري في قصائد عديدة، مثل (القرين) و(المغنى) و(الصعلوك) و(البابلى) وهذه القصائد جاءت في ديوان التضاريس 1986، ولكن في ديوان موقف من الرمال نجد قصيدة واحدة بعنوان (القرين)، ويتطرق إلى الإحساس بهذا الظل في قصيدة (يا امرأة)، وكل هذه القصائد، وغيرها، تشير إلى أصالة هذا المنحى عند الثبيتي، فهو لم يقف بإبداعه في ذلك المنحى الفكري عند حدود إسهامات آخرين سبقوه في هذا المجال، فهذا التوجه تشكل في إبداعه الشعري بشكلٍ جديد، وأخذ مناحي مختلفة تجعله يقف على بساط متساو، مع الآخرين وسيتجلى ذلك عندما نقف عند قصائد نختارها، لتشير إلى هذه الأصالة. الظل والإنسان المشارك:
في قصيدة الصعلوك، للشاعر الثبيتي تأتي فكرة المشاركة في النص الشعري فكرة مسيطرة، وربما تأتي فكرة المشاركة مرتبطة بوجود ذلك الآخر، وإلى الإحساس بوجوده، وبدبيبه وبنبرة المغايرة، وبسلطته في الحركة، وهذا التوجه المعنون بالظل والإنسان المشارك يشير إلى وجود خاص للإنسان، ووجود خاص للظل، يشي بهذين الوجودين أن النص الشعري، استند إلى تقنية مهمة ترتبط بضمير الغائب الذي يحفظ للإنسان وجوده المراقب، ويحفظ للظل وجوده المراقََب، يقول الشاعر:
يفيق من الخوف ظهرا
ويمضي إلى السوق
يحمل أوراقه وخطاه
من يقاسمنى الجوع والشعر والصعلكه
من يقاسمني نشوة التهلكه
وإذا كان السطران الأخيران، يعيدان المتلقي من دون وعي إلى قول سعدي يوسف عن ظله (نبي يقاسمني شقتي – يشاركني الغرفة المستطيله -وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب – وسر الليالي الطويلة)، فإن نص الثبيتي يدخل بنا إلى آفاق جديدة ترتبط بالإبداع، وبلحظة الإحساس بذلك الظل، مع بداية الوعي كل صباح، وبمجال إبداع ذلك الظل المرتبط بمراقبة الآخرين، من خلال السوق والأوراق التي يحملها، ودرجة وعيه وإدراكه.
والنص الشعري في إفصاحه عن ذلك المشارك الظل، يدخل بنا إلى جزئيات وثيقة الصلة بشعرية الثبيتي المرتبطة، بالجوع والشعر والصعلكة، وكلها جزئيات تشكل طبيعة شعرية الثبيتي، التي بدأت ببناء نفسها في الهامش معتمدة على المغايرة، تلك المغايرة التي شدتها لكى تكون في البؤرة أو في المتن، وكأن هذه الجزئيات المتفردة التي حملت إلينا شعرية الثبيتي تمثل هماً مشتركاً بينهما، ولهذا نجد النص الشعري بعد الإشارة إلى هذا التوحد المشترك يقيم حواراً بين الصوتين: أنت أسطورة أثخنتها المجاعات قل لي متى تثخن الخيل والليل المعركة وتستمر هذه المشاركة بين الصوتين، بحيث يشعر أن لكل قسيم حدوداً واضحة، على الرغم من الحضور الطاغي لهذا الظل من خلال ضمير الغياب، ولكن حضور الصوت الإنساني الآخر يظل موجوداً في نهاية القصيدة (يطوح أقدامه في الهواء- من يطارحني قمراً ونساء -ليس هذا المساء -ليس هذا المساء) الظل – الإنسان – التابع: أشرنا في الجزء الأول من القصيدة السابقة، إلى صورة من صور القرين أوالظل، وهي صورة – إذا ارتبطت بوجود الإنسان الآدمي – تطل واقفة عند حدود معينة، لكي تعلن عن وجودها فقط، ولكن هذا الوجود لا يلغي وجود الإنسان الذي يظل المتلقي يشعر بوجوده. ولكن وجود الصوتين على هذا النحو، يؤدي – بالضرورة – إلى الصراع بينهما، فكل واحد منهما (صوت الإنسان – وصوت الظل) يحاول أن تكون له الغلبة والسيادة، ويكون المحرك للواقع الفردي، وغالباً ما يكون صوت الظل هوالمسيطر، وبذلك يتوارى صوت الإنسان العادي، ويقل تواصله مع واقعه الفردي، في قصيدة القرين من ديوان التضاريس يقول الثبيتي:
مقيم علي شغف الزوبعه
له جناحان ولي أربعه
يخامرني وجهه كل يوم
فألغي مكاني وأمضي معه
أفاتحه بدمي المستفيق
فيذرف من مقلتي أدمعه
وأغمد في رئتيه السؤال
فيرفع عن شفتي إصبعه
فالمتلقي يشعر من البداية أن المشاركة التي أشرنا إليها في الجزء الأول، والتي تحفظ لكل قسيم وجوده وحركته، قد انتفت وبدأ تشكل جديد، ينطلق من الصراع، الذي خفف من حدته غنائية الثبيتي الشعرية، ولكن المتلقي يشعر أنه – على الرغم من هذه الغنائية – هناك بوادر للاختلاف والتنازع بين صوت الظل وصوت الإنسان. فالظل يرتبط بشغف الزوبعة، التي قد تشير إلى حالات التفرد التي يسير إليها، ويشعر بها بعيداً عن الفرد العادي، ويستمر التنازع من خلال الأجنحة التي تحلق في فضاءات مختلفة.
ولكن هذا التنازع أوالصراع، سرعان ما يحسم لصوت الظل، من خلال تنازل صوت الإنسان عن مكانه الطبيعي المعهود، فيعطي الظل – الشاعر حق القيادة والحركة والتواجد (فألغي مكاني وأمضي معه). وهذه السيطرة الخاصة من الظل يتجاوب معها إفصاح عن رؤية شعرية خاصة، كان صوت الإنسان المادي يلجمها أوعلى الأقل يرشحها. يتجلى ذلك الإفصاح بداية من قوله (زمني عاقر – قريتي أرملة – وكفي معلقة فوق باب المدينة – منذ اعتنقت وقار الطفولة – وانتابني رمد المرحلة – لدي سادن الوقت تشرق بي جرعة الماء – تجنح بي طرقات الوباء – تلاحقني تمتمات البسوس – أرى بين صدري وبين صراط الشهادة – شمساً مراهقة – وسماء مرابطة – ويمينا غموس) إن هذه الرؤية الأقرب إلى الاعتراف على المستوى الفردي والجماعي، ساعد على ظهورها سيطرة صوت الظل، وتوارى صوت الإنسان العادي المشدود إلى نسق اجتماعي خاص، يمارس دائماً في لحظة سيادته سلطة المراقبة على الشعرية المنتجة، ولكن هذا الصوت حين توارى، أحس المتلقي بالواقع الفردي والجماعي مقدماً في صورة صادمة إلى حد بعيد. وعلى هذا الأساس، فإن أكثر الأصوات الشعرية استجابة للشعر، هي تلك الأصوات التي يتوارى فيها صوت الأنا الإنساني، ليحل محلها صوت الظل – الشاعر، فتأتي الرؤية الشعرية جلية وصادمة، دون سلطة رقيب يرشد أو يرشح هذه الشعرية.
الظل – أو قرين الثبيتي «2»
الظل – والإنسان – التوحد
إذا كان الثبيتي في قصيدتيه (الصعلوك) و(القرين) من ديوانه التضاريس، قد أشار في الأولى إلى بداية إحساسه بهذا القرين أوالظل، مما يولد حالة من المشاركة بين الظل والإنسان، تحفظ لكل قسيم وجوده وتوازنه، وأشار في الثانية إلى اندحار الصوت الإنساني، ودخوله مرحلة التبعية، فإنه في ديوانه موقف الرمال، ومن خلال قصيدته (القرين) يدخل بنا إلى مرحلة جديدة، نابعة من التبعية، لكي تصل إلى حد التوحد، بحيث نجد حالة من التماهي بين صوت الإنسان وصوت الظل.
وإن كان الثبيتي بقصيدته القرين قد حاول أن يقدم مدخلاً مغايراً لما قدمه سابقاً، فإن هذا التوجه نفسه يحتاج إلى تفسير، وسيكون التفسير مرتبطاً في الأساس إما بتغير في صورة الظل، وإما بتغير في صورة الإنسان، فالظل – في إطارهذا التوافق – قد يكون راضياً وخانعاً، وهذا يخلق شعرية عادية، وتأمل أعمال الثبيتي تشير إلى نفي هذا التفسير واستبعاده، فقرينه أوظله حالم دائماً بالتغيير، حتى لو كان الوضع من كل الوجوه مثالياً، ولا يتبقى لدينا سوى التفسير الآخرالمرتبط بالإنسان، الذي أسلم قياده إلى الظل، فقد أصبح يعيش حالة شعرية دائمة كاشفة للذات دون مواربة أوتحيز، ومن خلال هذا التوحد يكشف عن رؤيته لشعريته وعن مراحل تطورها.
ففي نص القرين نرى هذا التوحد واضحاً، حيث يتوزع النص إلى ثلاث مراحل شعرية, يقول في الجزء الأول:
لي ولك
نجمتان وبرجان في شرفات الفلك
ولنا مطر واحد
كلما بل ناصيتي بللك
سادران علي الرمس نبكي
ونندب شمسا تهاوت
وبدرا هلك
وكل أنا تغشته حمي الرمال
فلم يدر أي رياح تلقي
وأي طريق سلك
إن تأمل المقطع الأول يشير إلى الحضور الفاعل للصوتين معاً، صوت الشاعر المتكلم، وصوت القرين المخاطب, فالصوتان يتحركان بشكل متساو، في إطار توجه ينم عن التوحد. ويمكن تقسيم المقطع إلى توجهات ثلاث، تبدأ الأولى من بداية النص حتى كلمة بللك, وهذا التوجه يشير إلى المتخيل النموذجي المرتبط بالشعر، في لحظة الإيمان بالكتابة, وبقدرة هذه الكتابة على تغيير الواقع الفردي والجمعي، فالنجمتان والبرجان المرتبطان بالفلك، يشيران إلى شعرية أولى تحاول الاحتماء بالحلم والآمال، ولكن هذا التوجه المملوء بالآمال والأحلام، سرعان ما نشعر بتغيره، بل بموته, من خلال كلمة الرمس، التي تشير إلى موت التوجه السابق، ويتجاوب مع هذا التلقي، ندب الشمس التي تتهاوى، والبدر الذي هلك، اللذان يشيران إلى متخيل نموذجي مرتبط بشعرية أولى، اصطدمت بواقع جامد لا يلين.
وهذا التوجه لا يعني بالضرورة موت الشعرية، وإنما يعني أن هناك تغيراً في منعطفاتها, فإذا كانت في التوجه الأول إحساساً بالآمال وانتظاراً لتحقيق الأحلام، فنراها في التوجه الثاني مصطدمة بواقع لا يلين، وفي التوجه الأخير تأتي مرتبطة بالاندحار تحت حمى الرمال مما يفتح دلالة رمزه الأثيري (الرمال) إلى منحى خاص يرتبط بالتيبس وعدم القدرة على الفعل، فكلاهما يتحرك بالقصور الذاتي، فلم يحدد واحد منهما طريقاً، ولم يعرف أي واحد منهما أي رياح -لكثرتها – تركت ندوباً غائرة في تكوينه. إن هذه الحركات التي تشير إلى تغير في شعرية الشاعر من الإيمان بقدرته وقدرة الكتابة، إلى حالة الموت التي أفضت إلى تيبس، تشير – بالضرورة – إلى حالة خاصة، قد أثرت بالضرورة في النص بداية من المقطع الثاني:
فرقتنا النوى زمنا
ثم لمت شتات نوانا
على بقعة من حلك
قلت لي:
هيت لك
هيت لك
سرت خلف خطاك أجرر
خطوالمساكين
لم أسألك.
إن حركة الوحدة التي أشرنا إليها في إطار التوجهات المتتالية للشعرية في المقطع الأول، تتباين مع حركة الفرقة التي أطلت في بداية المقطع الثاني، والسؤال المطروح هنا، متى بدأ الشعور بهذه الفرقة بين الشاعر وقرينه، والإجابة لن تكون مستندة إلى النص الشعري نظراً لطبيعته التي لا تشير إلى هذه الأمور بشكل مباشر، وإنما يمكن التماسها من طبيعة الشاعر -أي شاعر – الذي يحاول الحفاظ على صورته الأولى المرتبطة بالتعلق بالآمال وانتظار التغيير إلى الأفضل، ومن ثم هو ينكر دائماً حالة التغير التي يشعر بها تدريجياً المرتبطة به، والناتجة عن موت آماله، وانعتاقه من الإيمان بسلطة نموذج متخيل, ومن ثم فإن الفرقة التي يشير إليها النص الشعري، لا تشير إلى الحالة الأخيرة في التوجهات الثلاث، وإنما ترتبط بالصورة الأولى, المرتبطة بالتعلق بالآمال والأحلام.
ولكن الشاعر سرعان ما يدرك أن إنكار الصورة التي انتهى إليها صورة طبيعية نابعة من تغير الواقع, المتمثل على حد تعبير النص الشعري في قوله (علي بقعة من حلك)، فيحدث التوحد مرة أخرى في المقطعين الثاني والثالث.
وهذا المنحى الخاص المرتبط بتأمل القرين أوالشاعر الظل، منحى له وجود ملموس في ديوان الثبيتي, فهو يقول في قصيدة يا امرأة:
بيننا عازل لايري
وعين مجافية للكري
وليل قناديله مطفأة
يا امرأة
فالإشارة إلى العازل الذي لا يرى, ليست إلا إشارة إلى ذلك الكائن غير الملموس ماديا، المرتبط بالشاعر, والشاعر في تلك الصورة يستند إلى رصيد إبداعي مهم، مثل قول سعدي يوسف (يرافقني في زيارة محبوبتي – يدخل قبلي – يقبلها في الجبين – وإذ أرسم الرغبة المبهمة وسائد أومنزلاً – يرسم الرغبة المفعمة)، ذلك المعنى الذي أحسن أحمد بخيت صياغته في قوله : ويجلس بين فاتنتي وبيني ويسرق من دمي دفء الثواني ولكن تظل صورة الثبيتي لها حضورها المختلف، فالمرأة في نصه، ليست المرأة في شعر سعدي يوسف أو أحمد بخيت، فهي تشير إلى القصيدة والنص الشعري.
عادل ضرغام
————————
المصدر: صحيفة الجزيرة
0 تعليق