إنها لحظة..
لحظة قصيرة جدًّا
في أول تلك اللحظة ترتفع أصوات وربما تحصل جلبة وصراخ، مثل بقية خلق الله، لكن بما أن الذي سيموت هو شاعر فإن اللغة تبدو كما يقول محمّد الثبيتي رحمة الله:
بيضاء كالقار
نافرة كعروق الزجاجة
حين يموت شاعر تنعقد ألسنة الكون، وتلوذ رياح المشاعر بالصمت، الغيوم ترتفع وترتفع، الطيور تنتفض وتغادر رويدًا رويدا، والمساء الجميل يكفهر سريعًا سريعا، والزهور المتفتحة تترنح ببطء وتذوي لونًا لونا، والأوراق الخضراء تنقبض وتتساقط ورقة ورقة.
ترى من يوقظ هذا الكون، ترى من يوقد جذوة الإحساس في هذه الكائنات:
(من قال إن الزمان له ضفتان وأن الرمال لها أوردة)
في الشعر علامات فارقة لا يعرفها إلا النقاد والشعراء، أولئك الذين دفعوا إلى مضايقه، ولهذا قال الفرزدق إنه يعرف مواضع السجود في الشعر كما يعرف القرّاء مواضع السجود في القرآن، ومن ذلك لبيان مقدار تفوق الشاعر وعلو مرتبة نصه الشعري على نصوص أقرانه من الشعراء، وحين يموت شاعر من هذا النوع ترتفع الأصابع له بالشهادة، شهادة الإبداع المتفرد، وتخر له عروش أرباب الدواوين.
في وسط تلك اللحظة
حين يموت شاعر،
المشاعر، وألم المشاعر، بخور وقرابين، دعاء وصلوات الكلمات وحدها تجوس بالداخل، والمشيعون يتحركون على إيقاع البحر السريع.
في آخر تلك اللحظة
حين يموت شاعر
للتو تظهر القيم العليا، وفجأة يتحدث الناس للمرة الأولى عنه:
(لقد كان شاعرًا عظيما)
فاصلة من شعر محمّد الثبيتي:
– سلام عليك
سلام عليك فهذا دم الراحلين كتاب
من الوجد نتلوه
تلك مآثرهم في الرمال
وتلك مدافن أسرارهم
– يا حادي العيس فلترحل
هلم بنا
فالحائرون كثير، قبلنا رحلوا.
جريدي المنصوري
———————–
المصدر: المدينة
0 تعليق