الثبيتي .. سيد البيد والقصيدة

20 مارس، 2010 | قراءات نقدية | 0 تعليقات

سكينة المشيخصبين نارين أفرغ كأسه ولكن بقي في قعر الكأس بقية من رهق ومتاعب السنوات التي أثقلت كتف الشعر وكاهل الشاعر الذي حمل رايته الحداثية بجرأة مشاغبة حينا ومتوازنة أحيانا أخرى ، وعلى السرير الأبيض يهدأ العملاق ويستريح قليلا من عنا الأكلان الشعري ، ليجتمع محبوه في حضرته يؤازرون ويشدّون النيات المخلصة والتمنيات الصادقة  بعاجل الشفاء والعافية .

محمد الثبيتي الشاعر الحداثي المهم في المشهد الشعري السعودي المعاصر وأحد رواد قصيدة التفعيلة السعودية يبقى متألقا في وجدان الشعر والشعراء ، وتبقى تجربته الشعرية المبدعة مضيئة وإن ثار حولها الجدل واختلف الناس جرائها واختصموا ، نلقي الضوء عليها وعلى صاحبها متعه الله بالصحة والعافية من خلال هذا الدفق الصادق لبعض الشعراء الذين يكنون له كثير من الحب والتقدير .

المارد الملهم

الشاعر محمد الفوز يصف الثبيتي بالمارد ويستنشقه نقاء بقوله : لا أدري كلما قرأتُ محمد الثبيتي أو تذكرتُه في نصِّ ما ، أو استحضرتُه بمكانٍ …. أتخيله كالماردِ ، ثمة مزاجٌ متقلبٌ يبعثرُ تجربة الثبيتي ، هو جادٌ في حضورهِ و في نصوصه ، كلما اقتربتَ من عُمقهِ تجرحُك التآويل ، و كلما ابتعدتَ عن أبجديته تسلبُك اللغة المنسابة بخيلاءٍ لتقرأ (عاشقة الزمن الوردي) و (إيقاعات على زمن العشق) و (التضاريس) .. يقول ذات جُرح “حسناً أيها الفارس البدويّْ هل تجرعت حزن الغداة وصبر العشي/ أرى وجهك اليوم خارطة للبكاء وعينيك تجري دماً أعجمي ….
ويتابع الفوز : ” منذ الثمانيات و هو صاخب الصوت و الصدى إما عبر كتاباته أو من خلال العابرين في ظلاله المتمردة ، من يتفيأ خيمة الثبيتي سوف يتهيبُ عنفوان البداوة في لغته و صهيل الحداثة في روحه . أتصفحُ تضاريسه من حينٍ لآخر ، و مهما أردتُ اختلافا معه في بعض الأيدلوجيات و الأفكار التي تُسيِّجُ ذاكرة النص إلا أنني أقرؤه بروحٍ نفاذةٍ ، و لا أدّعي التماسَ معه تماما ، هو يعجبني ككل ، يسلبُني ككل ، لكن بعض نصوصه أجدها شاذة عن سياقِ فحولته ، بعض النصوص أشبه بالحشو لا سيما نصوصه الأخيرة ، هو في الثمانينات ماردٌ ملهمٌ ، في كُلِّ نصِّ أراهُ مأخوذا بطقوسٍ مغايرةٍ ، الصحراءُ و الجبل و الفراديس المتخيلة و الحسناوات …. كل هذه المفرادتِ تتشكل في منظومة نصوص الثبيتي لتبدو لُعبة الدهاء بين متذوقٍ متورطٍ بهوسِ الشعر ، و بينَ ناقدٍ يمشي بسياطِ الحيرة ، محمد الثبيتي ماردٌ شعريٌ قادمٌ من وادي عبقر إلينا ، جاءَ لينبشَ ثغر الوردِ ، و يلتهمَ نفائس الرغبةِ في جسد الكلام ، بتجلياتِه تشعرُ بصوفيةٍ غريبةٍ و بلؤمٍ ذكي في تناول المعنى ، هو شاعرٌ مخيف ، و لكنه جميل بحسب تعبير بودليير .

سحر الثبيتي

الشاعر محمد خضر يقف متأملا في الشاعر والتجربة وهو يقول : شكل الثبيتي منذ قصائده الأولى أثرا كبيرا على جيل كامل من الشعراء حتى بدا ذلك التأثير جليا وواضحا إذ أنه شاعر ورطة إذا جاز التعبير.
لغته التي تحمل مزيجا ووعيا بالجديد والشكل التفعيلي الذي يكتبه دون أن يقع فيما يقع فيه كثير من شعراء ذلك النص من تكلف ومكرور سائد.
أقول هل الثبيتي متجاوز في قصيدة التفعيلة شعراءنا اليوم؟ويبدو هذا واضحا من خلال هذا الكم الهائل من الثبيتي في قصائد الآخرين.
إن أهمية شاعر دائما وحيويا لأنه لا يزال ذلك الذي تحفظ قصائده وتردد معه من الجمهور في أمسياته، وهو ما اسميه سحر الثبيتي ولذة اكتشافه.
فقصائد مثل تعارف وسيد البيد حققت لدى المتلقي العادي مثلا تلك المعادلة بين الحداثة وجمال النص ولغته الجزلة.
ولعل الثبيتي من أوائل من كتبوا النص الحديث ليس زمنيا فقط بل وبذلك الوعي العميق بقصيدة زمنه وتحولاتها.

سيّد البيد والقصيدة

الشاعر إبراهيم زولي  يتجه عميقا وهو يغوص في أحشاء التجربة والشاعر الرمز حينما يقول : لعل الثبيتي يمثل حالة استثنائية في المشهد الشعري السعودي إن لم نقل في الجزيرة العربية في الربع الأخير من القرن العشرين.
ولعل صاحب التضاريس كان صوتا مغايرا واستطاع بحرفة شعرية أن يواءم بين النخبوية الجماهيرية في مزج إبداعي لم يتوفر إلا لقامات نادرة يتقدمهم درويش.
عليه فإننا قلنا ونقول : لم تكن تجربة محمد الثبيتي غريبة الوجه واليد واللسان كلا ولم تكن نبتا شيطانيا بل جاءت تناميا للمراحل السابقة على التضاريس بدءا بعاشقة الزمن الوردي مرورا بتهجيت حلما تهجيت وهما (أتيت أركض والصحراء تتبعني ….. وأحرف الرمل تجري بين خطواتي
) كان الثبيتي ينزع من البدء لخلق معجم شعري خاص به وهو معجم الصحراء متكئا على مفردة تراثية.
هذا المزج بين اللغة المعجمية في سياقات حديثة مع تنوع الإيقاع العروضي من المتدارك

(مسه الضر هذا البعيد القريب
المسجى بأجنحة الطير
والنمل يأكل أجفانه
والذباب)
والمتقارب (أدر مهجة الصبح
صب لنا وطنا
في الكؤوس)

والطويل(ألا قمرا يحمرُ في غرة الدجى ………….
والكامل كما في الأوقات(فإذا المدينة شارع قفر……..)
والرمل(مدنا في ساعديك….واحفظ العمر لديك)
وينتهي زولي الى استخلاص أنيق ، بقوله : إذن لم تكن فرادة الثبيتي قادمة من فراغ إنه يتمثل التراث العربي والإنساني (واطو أحلام السليك )و(وجه ذو القرنين عاد مشربا بالملح والقطران) يتمثله إن على المستوى الإيقاعي أو اللغوي وحتى الأسطوري كل ذلك مهد له خوض التجربة الجديدة بأقدام راسخة لذلك جاءت تجربة التضاريس مختلفة لغة ورؤيا حيث احتفى بها النقاد احتفاء قل نظيره ، كان نموذجا للكثير من تنظيرات ودراسات النقاد آنذاك الأمر الذي جعل الكثير من شعراء الثمانينات والتسعينات تتلقف هذا النموذج .
وساهم النقاد في ذلك كثيرا بالرغم من حضور مجايليه في تلك المرحلة كالصيخان والحربي والألمعي والعودة وغيرهم غير أن الثييتي كان منجزه الشعري في متناول الجميع حاضرا في جميع المكتبات في الوقت الذي كان الآخرون لم يصدروا ديوانا واحدا أو أنهم أصدروا ولكن خارج الحدود.
ويضيف : هذه الملامح وغيرها هيأت لتجربة الثبيتي أن تمدَ ظلالها على كثير من نصوص شعراء المرحلة بعدها توقف الثبيتي إلا من نصوص قليلة نتيجة كثير من المتغيرات التي أصابت التجربة عموما بانكسارات وإحباطات متوالية ليعود بموقف الرمال وحضور منبري بهيج لعلّ آخره تألقه في فعاليات الأيام الثقافية السعودية في صنعاء متزامنا مع استعادة المشهد الثقافي كثيرا من عافيته ، ونحن إذ نرفع أكفنا للسماء أن يتجاوز سيد البيد واللغة هذه المحنة فإنما هو دعاء للقصيدة التي أعلنت أنها الأبقى وما سواها فروع.

سكينة المشيخص

المصدر: منبر الحوار والإبداع

مقالات مشابهة

قصيدة ما قبل النفطي

قصيدة ما قبل النفطي

 قصيدة ما قبل النفطي الحدث الشعري في “موقف الرمال/موقف الجناس” لمحمد الثبيتي   حاتم الزهراني* يمكن مقاربة المشروع الجمالي للشاعر السعودي محمد الثبيتي (1952—2011) بتحليل نصوص "الذروة الشعرية" في ديوانه؛ وهي نصوص المرحلة التي بدأت بمجموعة "التضاريس"([1]) لتحدث...

المغامرة الإيقاعية وتنوّع الأشكال الشعرية في شعر الثبيتي

المغامرة الإيقاعية وتنوّع الأشكال الشعرية في شعر الثبيتي

يحرص الثّبيتي على تنويع الأشكال الشّعريّة في مدوّنته، ساعيا من وراء ذلك إلى اختبار الممكنات الجماليّة لكلّ شكل شعريّ. ولا عجب، فلكلّ شَكْلٍ شعريّ إرث من الأساليب الفنيّة المستعملة فيه تَسِمُهُ بمَلْمَحٍ خاصّ. ولقد كان الثّبيتي مدركا تمام الإدراك لهذا الأمر، فلم...

عتبات التهجي قراءة أولى في التجربة الشعرية عند الشاعر محمد الثبيتي*

عتبات التهجي قراءة أولى في التجربة الشعرية عند الشاعر محمد الثبيتي*

ساهم تسارع تطور التجربة الشعرية عند محمد الثبيتي في رفع وتيرة الإرباك الذي مس من كانوا يناصرون تلك التجربة بقدر ما مس أولئك الذين كانوا يناصبونها العداء، واقتسم الفريقان الحيرة إزاء هذه اللغة الجديدة التي كانت تشكل لفريق تبشيراً بآفاق جديدة موغلة في الحداثة، كما...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *