حين يحضر الشعر الشعر ، تشرئب الذائقة وتنتشي الروح بما ينساب فيها من أنهار تتهادى على صفحاتها روعة الكلمة وفتنة الموسيقى وبهاء الخيال ودهشة المعنى ..
حين يحضر الشعر الشعر، تخشع الروح وتسمو وتشف ، لتتحول الى سحابة معطّرة معلقة في سمائه ، ونغمة عذبة تشع في لحنه ..
حين يحضر الشعر الشعر :
لابد أن يكون الثبيتي حاضرا ، لأنهما متلازمة عضوية ، ومعادلة إنسانية ، لا تكتملان ولا تصحّان إلا بحضور طرفيها ..
محمد الثبيتي : الذي أنبتته القرية في أعذب لحظة من مواسم شعرها ، وأرضعته كل ما في عروقها من صفاء وصدق ، وأنفة واعتداد ، أشرق في حنجرته صبحٌ وإذا بــه : ” تقطر الشمس من شفاهه ، وصمته لغة شاهقة تتلو أسارير البلاد ..” .. وإذا به : “عرّافاً للرمل يستقصي احتمالات السواد ..”
أدرك مبكرا أنه لا خيار له غير الشعر الذي صار لغته وقضيته ، لغة التعبير عن القضية ، وقضية تطويع اللغة بأناقة باذخة لتكون أصدق وأجمل في التعاطي مع إشكالات الحياة وتفاصيلها ..
وبشكل مغاير للسائد ، أصبح كل شيء في شعره يفوح بقضية .. غزله ، وصفه ، تأمله ، أنينه ، حنينه ، آماله وخيباته ، كل شيء .. كل شيء .. كان يفعل ذلك في الوقت الذي كان فيه كثير الشعر لا يزيد عن صف كلمات تقرع السمع دون أن تشده وتعانقه ، أو توحي له بمهمة الشعر العظيمة ..
وطبيعي تماما أن يتحول شاعر كهذا الى قضية بذاته ، لأنه مصدر كل القضايا غير المألوفة .. قضية جميلة بالنسبة للذين يعون أن شاعرا فخماً وصادقاً ومنتمياً كهذا ضرورة مهمة للمجتمع والحياة ، وقضية مزعجة للذين يناضلون من أجل وأد الصدق ليبقى المجتمع منكفئاً على خيباته ونكوصه وترهله ..
وحين كانت الظروف مواتية خلال حقبة غاب فيها كثير من ضوء العقل ، ونهضت آلة هادرة لإقصاء كل شيء عداها ، كان لابد من إقصاء القضية المزعجة وتغييب صوتها المؤثر ، ضمن أشياء أخرى كثيرة جميلة .. لكنهم لم يفطنوا الى أن صوت الشعر عند نموذج كشاعرنا لا يمكن أن يغيب . قد يمكن حصاره ، لكن يستحيل منعه من أن يظل محتدماً في روح صاحبه ، وبإمكانه الوصول الى محبيه مهما كانت قسوة الحصار..
كان شعار الثبيتي : ” ما دمت تنهل صفو الينابيع .. شق بنعليك ماء البرك ..”..
وهكذا ، استمر مخلصا لأخلاقيات قضيته ، وفياً لها ..
لم تتوقف رحلته ، رغم أن ” شراعه مضى بما لا تشتهي روحه “..
ورغم أن ” الفجر فاته إذ طالت تراويحه “..
مضى يسبّح بشعره ..
قصائده أينما ينتابه قلقه ،
ومنزله حيثما يلقى مفاتيحه ..
ظل عاليا ، شامخا ، “هو والنخل صنوان” ..
حزن .. ولم ييأس ..
تألم .. ولم يستسلم ..
تعب .. ولم ينكسر ..
استمر مؤمنا بيوم لابد أن تتجلى فيه الحقيقة ..
يوم لابد أن تُفتح فيه بوابة الريح ..
وحين بدأت شمس الحقيقة تشرق على جيوب الظلام، بدأت ذاكرة الوطن تستيقظ وتستجمع شتاتها ، لتجد أن حيزاً فبها لازال نابضا بشاعرها .. عرفتْ حينها كم كان الماضي ظلوما وجهولا .. وكان من الطبيعي أن يكون أول شيء تفعله بعد انتعاشها ، هو الاعتذار له ، وتدشين الحاضر على صوته المعتـّق ..
كان اعتذاراً يشبه التكفير عن ذنب عظيم ، ليعود كل الى موقعه الطبيعي ، ويعتلي الثبيتي عرش الشعر .. وعرش القلوب ..
د. حمود أبوطالب
بمناسبة تكريم خميسية الموكلي للشاعر في 14/12/2007م
0 تعليق